على الرغم من إنشاء الأمم المتحدة للعديد من الآليات والمؤسسات المعنية بتوثيق وجمع الأدلة عن الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان التي حدثت في سوريا على مدى سنوات الصراع الدائر منذ عام 2011، إلا أن الحكومة السوريّة السابقة لم تكن تسمح لتلك المؤسسات الأممية بالدخول إلى سوريا خاصة في المناطق التي كان يسيطر عليها، وكانت حجته في ذلك أن هذه المؤسسات “مسيسة”، وأن تقاريرها لا تعكس الواقع، ومليئة بالمعلومات المضللة.
لكن بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 توافدت تلك المؤسسات والآليات إلى سوريا للاطلاع على واقع الانتهاكات عن قرب، ومعاينة مواقع عدد من الانتهاكات والجرائم، واللقاء الفيزيائي بالناجيات والناجين من الضحايا أو بذويهم.
- زيارة المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا:
من ضمن المؤسسات التي زارت دمشق عقب سقوط النظام، “المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا“، والتي تم إنشاءها استجابة للنداءات العاجلة من أفراد أسر الآلاف من الأشخاص المفقودين في سوريا وعائلاتهم/ن، لاتخاذ إجراءات لتحديد مصيرهم ومكان وجودهم.
وفي ختام زيارة المؤسسة أكدت “كارلا كينتانا”، رئيسة المؤسسة، أن معرفة مصير المفقودين خلال حكم نظام بشار الأسد تُعدّ الخطوة الأولى نحو تحقيق السلام الدائم في سوريا. وشددت على ضرورة إدراك حجم المأساة الممتدة لأكثر من 50 عامًا من حكم نظام الأسد، والتي شملت 14 عامًا من الحرب شهدت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وأشارت كينتانا إلى أن الواقع الجديد في سوريا يتيح فرصًا للبحث عن عشرات الآلاف من المفقودين، وهي إمكانية لم يكن يمكن تصورها سابقًا.
وخلال زيارتها، التقت كينتانا بوزيري الخارجية والعدل، إلى جانب الهلال الأحمر السوري، والخوذ البيضاء، والصليب الأحمر الدولي. كما قام فريق المؤسسة بزيارة مناطق متضررة مثل داريا وحي التضامن، إضافة إلى سجن صيدنايا ومقبرة جسر بغداد.
من الجدير بالذكر، أنّ “المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا” تأسست من قبل الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في حزيران/يونيو 2023، وهي الكيان الوحيد الذي تم إنشاؤه خصيصًا لتحديد مصير ومكان وجود جميع الأشخاص المفقودين في سوريا، ودعم الضحايا، بمن فيهم الناجين والناجيات وأسر المفقودين، ويأتي تفويضها من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك بعد الجهود الدؤوبة لعائلات المفقودين السوريين.
ووفقًا لاختصاصات المؤسّسة المستقلة، فإنّ المفقودين هم: “أي شخص لا يُعرَف مصيره أو مكان وجوده بوضوح، بغضّ النظر عن أسباب اختفائه، سواء كانت تتعلق بأفعال ارتكبها أشخاص آخرون أم لا، وسواء كانت هناك صلة بالنزاع المسلح في سوريا أو لا.“
وبالتالي، تشمل ولاية المؤسّسة المستقلّة، الأشخاص الذين يُعتقد حاليًا أنّهم مفقودون أو فقدوا في سوريا، بغضّ النظر عن جنسيّتهم أو تاريخ اختفائهم أو الطرف الذي يُعتقَد أنه مسؤول عن اختفائهم، وتشمل أيضًا الأشخاص الذين فُقدوا في البداية في بلد آخر، وكذلك أولئك الذين يُعتقد أنهم لم يعودوا داخل حدود سوريا. ويشمل مصطلح “الضحيّة”، وفقًا لاختصاصات المؤسّسة الأشخاص المفقودين وأي فرد آخر لحق به ضرر نتيجة لفقدان الشخص، مثل أفراد الأسرة، ويشمل المصطلح أيضًا الناجين والناجيات الذين كانوا في السابق في عداد المفقودين.
- لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا:
تمكنت “لجنة التحقيق الدولية المستقلة” من زيارة سوريا، في كانون الأول/ديسمبر 2024، بعدما كانت تحاول التحقيق عن بُعد بشأن وقوع جرائم منذ بداية الحرب منذ العام 2011.
وأشارت اللجنة التي أُنشئت للتحقيق في جميع الانتهاكات المزعومة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، والمرتكبة في سوريا منذ آذار/مارس 2011، إلى أن ما رأته خلال زياراتها للمعتقلات في سوريا، يتطابق مع الأوصاف التي قدمها مئات الناجين والمنشقين إلى اللجنة على مدار الأربعة عشر عامًا الماضية.
وتناولت الزيارة فتح قنوات اتصال مع السلطات السورية الجديدة، إضافة إلى زيارة بعض المواقع الحساسة، مثل سجن صيدنايا العسكري سيء السمعة، وفرع المخابرات العسكرية 235 (فلسطين) بهدف تقييم مدى القدرة على الحفاظ على الأدلة المتعلقة بالانتهاكات التي وقعت خلال سنوات الحرب.
وفي تقرير لها بعد زيارتها الثانية في كانون الثاني/يناير، أكدت اللجنة أن معاناة عشرات الآلاف من العائلات التي لم تعثر على أقاربها المفقودين بين السجناء المفرج عنهم لا تزال مستمرة، مؤكدة أن اكتشاف مقابر جماعية إضافية دفع العديد من العائلات إلى استنتاج الأسوأ.
يُذكر أنّ لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا تتألف من المفوضين/ات: “باولو بينهيرو” و”هاني مجلي” و”لين ويلشمان”. وكانت اللجنة قد أُنشئت بتاريخ 22 آب/أغسطس 2011 من قبل مجلس حقوق الإنسان بموجب القرارS-17/1.
وتتمثل ولاية اللجنة في التحقيق بشأن كل الانتهاكات المزعومة لقانون حقوق الإنسان المرتكبة منذ آذار/مارس 2011 في سوريا. وكلف مجلس حقوق الإنسان اللجنة كذلك بإثبات الوقائع والظروف التي قد ترقى إلى مثل تلك الانتهاكات والخاصة بالجرائم المرتكبة مع القيام، حيثما أمكن، بتحديد الجناة بهدف التأكد من مساءلة المسؤولين عن تلك الانتهاكات، بما في ذلك الانتهاكات التي قد ترقى إلى الجرائم ضد الإنسانية.
- مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان:
بتاريخ 14 من كانون الثاني/يناير 2025، زار مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، دمشق للمرة الأولى، حيث التقى برئيس المرحلة الانتقالية السوري: “أحمد الشرع”.
وأكد تورك، ضرورة معالجة أخطاء الماضي التي ارتكبتها جميع الأطراف الفاعلة في سوريا على مدى العقود الخمسة الماضية ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم الجسيمة لحقوق الإنسان، والتحقيق بشكل كامل في حالات الاختفاء القسري والتعذيب واستخدام الأسلحة الكيميائية وغيرها من الجرائم الوحشية الأخرى وتحقيق العدالة بشكل عادل ونزيه.
- الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للتحقيق في الجرائم الخطيرة في سوريا:
وفي كانون الأول/ديسمبر 2024، زار دمشق أيضًا، روبرت بيتي، رئيس “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للتحقيق في الجرائم الخطيرة في سوريا” والتي تأسست في كانون الأول/ديسمبر 2016 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، للمساعدة في التحقيق مع الأشخاص المسؤولين عن أخطر الجرائم بموجب القانون الدولي المرتكبة في الجمهورية العربية السورية ومقاضاتهم منذ مارس/آذار 2011.
وفي ختام زيارته أكد أن سقوط حكم الأسد يمثل فرصة مهمة للوفاء بولاية الآلية، حيث سُمح لها بالدخول إلى سوريا للمرة الأولى منذ إنشائها قبل ثماني سنوات.
وسلط بيتي الضوء على الحاجة الملحة لحفظ الأدلة قبل ضياعها، محذرًا من أن كل يوم يمر دون تأمين هذه المواقع والمواد يشكل خطرًا على فرص تحقيق المساءلة الشاملة.
من الأهمية الإشارة إلى أنّ “الآلية” أُنشئت من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتكون بمثابة جهة مساعدة للسلطات القضائية المختصة في النظر في الانتهاكات والجرائم التي وقعت في سوريا اعتبارًا من آذار/مارس 2011 فصاعدًا، ولا سيما جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وتستخدم الآلية منهجية ومعايير القانون الجنائي في كل مرحلة من مراحل عملها، وهذا يسهل على المدعين العامين/ات دمج المنتجات والمواد التي تتقاسمها الآلية في قضاياهم/ن ويعزز إلى أقصى حد ممكن احتمال استخدامها في الإجراءات القانونية، والهدف من ذلك هو تحديد المسؤولية الجنائية الفردية عن الجرائم بما لا يدع مجالًا للشك.
- ما أهمية وصول الآليات والمؤسسات الدولية إلى سوريا؟
بالرغم من محاولات نظام بشار الأسد، وباقي الأطراف المتورطة بالانتهاكات، الحثيثة بطمس الحقائق، لا تزال عشرات آلاف الأدلة على الجرائم المرتكبة في سوريا خلال فترة حكمه سليمة، وفق ما أكد محققو الأمم المتحدة.
ويعد وصول هذه الآليات والمؤسسات إلى كامل سوريا خطوة مهمة لعدة أسباب أساسية، تتعلق بتحقيق العدالة وكشف الحقيقة وإنصاف الضحايا. خاصة إن أخذنا بعين الاعتبار ما تحتويه تلك الآليات من خبرات وتقنيات قد لا تكون متوفرة في سوريا التي أنهكتها الحرب. ومن جملة هذه الأسباب:
- توحيد الجهود في البحث عن المفقودين: في حين ما تزال آلاف العائلات تبحث عن أقاربها المفقودين، سواء كانوا مختفين قسريًا أو محتجزين أو مدفونين في مقابر جماعية، فإن السماح لهذه المؤسسات بالوصول إلى كافة المناطق يسهل عمليات البحث، وجمع الأدلة، وتقديم إجابات للعائلات.
- توثيق الجرائم والانتهاكات: فالعديد من الجرائم التي ارتُكبت خلال حقبة النظام، بما في ذلك التعذيب والإعدامات خارج نطاق القانون والاختفاء القسري، تحتاج إلى توثيق دقيق لضمان عدم ضياع الأدلة، وهو أمر أساسي لتحقيق العدالة لاحقًا.
- المساءلة والمحاسبة: التحقيقات المستقلة ضرورية لمحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب، سواء كانوا أفرادًا أو جهات حكومية أو جماعات مسلحة. هذا يساعد في ردع تكرار هذه الجرائم مستقبلاً.
- تجنب طمس الأدلة: مع مرور الوقت، يزداد خطر فقدان الأدلة أو تدميرها، سواء بشكل متعمد أو بسبب الإهمال. إنّ وصول هذه المؤسسات يسمح بحفظ البيانات والشهادات والوثائق، ما يعزز فرص تحقيق العدالة مستقبلاً.