الولاية القضائية العالمية
يعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية على خطورة الجريمة التي يُزعم أن الفرد قد ارتكبها، بدلاً من ارتباط معين بدولة ما، ويستند هذا المبدأ إلى فرضية مفادها أن الجرائم الدولية شائنة ومدمرة للنظام الدولي لدرجة أنه يجوز لأي دولة أن تمارس الولاية القضائية عليها، ولها مصلحة مشروعة في القيام بذلك، وقد ورد تعريف هذا المبدأ في تقرير الخبراء الصادر عن الاتحاد الافريقي والاتحاد الأوروبي حول مبدأ الولاية القضائية العالمية، على النحو التالي:
“الولاية القضائية الجنائية العالمية هي تأكيد من دولة ما على اختصاصها القضائي في شأن جرائم يُزعم أنها ارتكبت ضمن أراضي دولة أخرى على يد مواطنين من دولة أخرى ضد مواطنين من دولة أخرى، حيث لا تشكل الجريمة المزعومة تهديداً مباشراً للمصالح الحيوية للدولة التي تؤكد الولاية القضائية، بعبارة أخرى، ترقى الولاية القضائية العالمية إلى مطالبة الدولة بملاحقة الجرائم في ظروف لا تتضمن أياً من الروابط التقليدية، المتمثلة في الإقليمية أو الجنسية أو الشخصية السلبية أو المبدأ الحمائي في وقت ارتكاب الجريمة المزعومة”.
مصادر الولاية القضائية العالمية:
ينِشأ التزام الدول بالتحقيق في الجرائم الدولية ومقاضاة مرتكبيها على أساس الولاية القضائية العالمية من المعاهدات والاتفاقيات التي تفرض على الدول التحقيق مع المشتبه فيهم ومقاضاتهم، أو تسليمهم إلى الدول الأطراف الأخرى الراغبة في القيام بذلك، أي ما يسمى “مبدأ الالتزام بالتسليم أو المحاكمة”، وعليه يجب على الدولة التي صادقت على مثل هذه المعاهدة أو انضمت إليها إما أن تحاكم أو تُسلم.
تفرض اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 على الدول الأطراف الالتزام، إما بإجراء التحقيق والمقاضاة في المخالفات الجسيمة على أساس الولاية القضائية العالمية، وإما بتسليم المشتبه فيهم إلى دولة أخرى، ولا يشترط وجود المشتبه به على أراضي الدولة المعنية.
كما إن اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة تلزم كل دولة طرف بممارسة الولاية القضائية على جريمة التعذيب إذا ارتكبت الجريمة على أراضيها، أو إذا ارتكبها أحد مواطنيها، أو إذا كانت الضحية من مواطني الدولة المعنية، أو إذا كان المشتبه فيه موجوداً على أراضيها، وإذا لم تقم الدولة الطرف بتسليم المشتبه فيه، فيجب عليها إحالة القضية إلى سلطاتها من أجل إجراء المحاكمة في شأنها.
وتنص الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري على أن تتخذ الدول الأطراف التدابير اللازمة لمقاضاة مرتكبي الاختفاء القسري إذا ارتُكِبَتْ هذه الجرائم على أراضيها، أو إذا ارتكبها أحد مواطنيها (أياً كان الموقع الجغرافي)، أو إذا ارتُكِبَتْ ضد أحد مواطنيها (أياً كان الموقع)، أو إذا كان المشتبه فيهم موجودين على أراضيها، وتتضمن المعاهدة مبدأ الالتزام بالتسليم أو المحاكمة، الذي ينيط بالدول إما أن تمارس الولاية القضائية على الجاني أو أن “تسلمه أو تحيله إلى دولة أخرى وفقاً لالتزاماتها الدولية أو إلى محكمة جنائية دولية تعترف باختصاصها”.
ما هي الجرائم المشمولة بالولاية القضائية العالمية؟
تختلف الجرائم التي يشملها مبدأ الولاية القضائية العالمية بين دولة وأخرى، لكنها تغطي بالإجمال طيفاً واسعاً من الجرائم، كما هو الحال في أستراليا أو إسبانيا، حيث يؤدي العنف ضد المرأة أو الجريمة المنظمة أو حتى الفساد على يد موظفي القطاع العام إلى اعتماد مبدأ الولاية القضائية العالمية، وقد لجأت بعض الدول إلى تطبيق الولاية القضائية العالمية على بعض الجرائم ذات الأهمية الدولية فحسب، كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وقد أدرجت بلدان أخرى جرائم قائمة بذاتها مثل التعذيب والإخفاء القسري لتكون مشمولة بمبدأ الولاية القضائية العالمية، وأخضعت سويسرا الإخفاء القسري (كجريمة قائمة بذاتها) لمبدأ الولاية القضائية العالمية، أما جنوب أفريقيا فقد قامت بسن ثلاثة قوانين تسمح بتطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية على الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وجرائم الحرب وجريمة التعذيب القائمة بذاتها.
دور منظمات المجتمع المدني في تحريك الدعاوى ومتابعتها:
في أغلب الأحيان تكون المنظمات غير الحكومية القوة الدافعة وراء الدعاوى التي تُلاحق بموجب الولاية القضائية العالمية، فهي التي تجمع الأدلة وتحدد الضحايا والشهود، وتنمي العلاقات معهم، وغالباً ما يكون أسهل على هذه المنظمات الوصول إلى الدولة التي وقعت فيها الجريمة المزعومة والعمل على الأرض، ذلك أن أنشطتها لا تتطلب تعاوناً بين الدول.
وتعتمد المنظمات غير الحكومية على معارفها على الصعيد الميداني كي تراقب تحركات المشتبه فيهم، ما يجعلها مخولة لتنبيه السلطات المحلية عند ظهور مشتبه به على أراضيها، وتقدم أيضاً الدعم للضحايا كما للشهود، كالدعم القانوني والنفسي والاجتماعي، كما وتساهم في نشر الدلائل حول تطبيق الولاية القضائية العالمية، وتشارك بشكل ملحوظ في أنشطة المناصرة لتضغط على السلطات المحلية كي تتخذ الإجراءات المطلوبة، وتؤدي كذلك دوراً مناصراً ريادياً في الدفع باتجاه تطبيق الولاية القضائية العالمية في كل أنحاء الأرض.
تأثير الحصانة الدبلوماسية على الولاية القضائية العالمية:
ثمة دول تعتبر الحصانة الدبلوماسية لرؤساء الدول ووزراء الخارجيات والأشخاص الذين يتمتعون بالحصانات الدبلوماسية بموجب معاهدات معمول بها مانعاً يحول دون تحريك الدعوى العامة بحقهم مع إنها تتبنى مبدأ الولاية القضائية العالمية، كما هو الحال في هولندا والنرويج وبلجيكا، وهذا الأمر يخضع للتجاذبات السياسية بين الدول، وتخوف تلك التي تأخذ بأولوية الحصانات الدبلوماسية من توتر العلاقات السياسية مع الدول التي ينتمي إليها المسؤولين المتهمين بارتكاب أي من الجرائم المشمولة بالولاية القضائية العالمية.
وقد رحبت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالزيادة المتنامية في الملاحقات القضائية الوطنية التي تستند إلى الولاية القضائية العالمية فيما يتعلق بالانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، ووفقًا للمعلومات المتاحة لدى اللجنة الدولية، ثمة، منذ عام 2018، تحقيقات خارج حدود الدول تتعلق بجرائم دولية يُزعَم ارتكابها في حالات النزاع المسلح، بدأتها أو استأنفتها هيئات الملاحقة القانونية الوطنية في كل من الأرجنتين والنمسا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا والنرويج والسويد وسويسرا، إضافةً إلى ذلك، ثمة ما لا يقل عن 15 محاكمة جارية أو لم يتم البت فيها في كل من النمسا وبلجيكا وفنلندا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا والسويد وسويسرا وهولندا والمملكة المتحدة، وتم إصدار ما لا يقل عن 9 أحكام من محاكم وطنية استنادًا إلى الولاية القضائية العالمية في كل من فنلندا وفرنسا وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة.