أظهر تسجيلٌ مصوَّر تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر 2025، حادثة مؤسفة وقعت في مدرسة داريا الحكومية للتعليم الأساسي بريف دمشق، حيث أظهر شريط الفيديو، سيدة قيل بأنّها مديرة المدرسة، وهي تُعنف عددًا من التلاميذ في باحة المدرسة أثناء اصطفافهم الصباحي استعدادًا للدخول إلى الصفوف.
وقد بيّن المقطع السيدة وهي تتجوّل بين صفوف الطلاب ممسكةً بعصا، تمارس الترهيب وتوجّه الضرب لبعضهم أمام أنظار زملائهم، في مشهد يعكس استمرار مظاهر العنف التربوي داخل المؤسسات التعليمية.[1]
وفي أعقاب انتشار التسجيل، أعلن مدير التربية والتعليم في ريف دمشق، فادي نزهت، اتخاذ إجراءات أولية تمثلت في توقيف المديرة عن العمل ومنعها من دخول المدرسة،[2] في خطوة وُصفت بأنها إجراء تأديبي أولي بانتظار نتائج التحقيق.
ورغم أن وزارة التربية السورية تحظر منذ سنوات استخدام الضرب أو أيّ شكل من أشكال العنف داخل المدارس بموجب تعاميم متكررة، كان آخرها التعميم الصادر في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 2025، والذي ينصّ صراحة على منع أي اعتداء جسدي أو لفظي على الطلاب منعًا باتًا وتحت أي مبرر، إلا أن تكرار حوادث العنف المدرسي يشير إلى أن تلك التعاميم لم تحقق أثرًا رادعًا أو حلاً جذريًا للمشكلة، ما يثير الحاجة إلى تدخل تشريعي أكثر صرامة يجرّم صراحة هذه الممارسات ويكفل للطفل حماية قانونية فعالة داخل البيئة التعليمية.
العنف ضد طلاب المدارس من وجهة نظر القانون السوري:
يثير موضوع العنف المدرسي إشكالية قانونية مهمة تتعلق بمدى كفاية التشريعات السورية في حماية الأطفال بشكل خاص من التعنيف داخل البيئة التعليمية، ومدى انسجام تلك التشريعات مع الالتزامات الدستورية والدولية لسوريا في مجال حماية حقوق الطفل.
فعلى الرغم من خطورة الظاهرة واتساع آثارها النفسية والاجتماعية، لا تتضمن التشريعات السورية نصًا صريحًا يجرّم فعل التعنيف المدرسي أو يوفّر حماية خاصة للطفل من ممارسات العنف الصادرة عن معلميه أو القائمين على رعايته التعليمية. بل إن المادة (185) من قانون العقوبات جاءت بصيغة تثير الجدل، حيث تجيز لآباء الأطفال وأساتذتهم ضربهم تحت ما يسمى بــ “ضروب التأديب”، على نحو ما “يبيحه العرف العام”.
وهذه الصياغة تمنح، في الواقع، عذرًا محلاً من العقوبة لكل من يمارس العنف ضد الطفل تحت غطاء “ضروب التأديب”، دون أن يضع المشرّع تعريفًا محددًا لمفهوم “العرف العام” أو ضوابط واضحة لحدود التأديب المباح. وبذلك، تُترك تقديرات المشروعية خاضعة لاجتهادات متفاوتة باختلاف البيئات الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي قد يفتح الباب واسعًا أمام ممارسات قاسية أو مهينة تمس كرامة الطفل وسلامته الجسدية والنفسية.
ويُعدّ هذا النص متعارضًا بصورة جوهرية مع نص المادة 22 من الإعلان الدستوري السوري لعام 2025 التي أكدت على أن واجب حماية الأطفال من الاستغلال وسوء المعاملة يقع على عاتق الدولة، كما يتناقض مع أحكام قانون حقوق الطفل رقم /21/ الصادر في سوريا عام 2021، الذي نصّت المادة (14) منه على أن “للطفل الحق في الحماية من جميع أشكال العنف أو الإساءة أو الإهمال أو الاستغلال، وتلتزم الدولة باتخاذ التشريعات والتدابير اللازمة لضمان ذلك”.
كما يُشكل بقاء المادة (185) على حالها انتهاكًا للالتزامات الدولية التي تعهّدت بها سوريا، لاسيما اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 التي تنص في المادة (19) على وجوب حماية الطفل من “جميع أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية”، وفي المادة (28) على أن تكون إدارة النظام في المدارس متسقة مع كرامة الطفل الإنسانية. كذلك، تتعارض هذه المادة مع اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984 التي تحظر أي شكل من أشكال المعاملة القاسية أو اللاإنسانية، بغض النظر عن الدافع أو الصفة التربوية للفاعل.
أما في الحالات التي يؤدي فيها التعنيف إلى إلحاق أذى جسدي فعلي أو عاهة مستديمة بالطفل، فإن الفعل يُعتبر جريمة إيذاء يخضع لأحكام قانون العقوبات العام، شأنه شأن أي اعتداء يقع من شخص على آخر.
وتُطبّق في هذه الحالة المواد 540 و541 و542 من قانون العقوبات السوري، والتي تصنّف جريمة الإيذاء بحسب جسامة الضرر اللاحق بالمجني عليه ومدة تعطيله عن العمل. فإذا لم تتجاوز مدة التعطيل عشرة أيام، عُدّ الفعل إيذاءً بسيطًا يُعاقب عليه بالحبس التكديري[3] أو بالغرامة، أما إذا تجاوزت المدة عشرين يومًا، فتُشدّد العقوبة لتصل إلى الحبس لمدة تصل إلى ثلاث سنوات والغرامة حتى مئة ألف ليرة سورية.
كما نصّت المادة (545) على تشديد العقوبة في حال كان المعتدى عليه قاصرًا دون الخامسة عشرة من عمره، باعتبار أن صغر سنّ المجني عليه ظرف مشدد يستوجب تغليظ الجزاء.
وبذلك يمكن القول إن القانون السوري ما زال يفتقر إلى نصوص واضحة وصريحة تجرّم العنف التربوي وتُخرج فعل التعنيف المدرسي من نطاق الأفعال المبررة بالعُرف أو التأديب، الأمر الذي يجعل الحاجة ملحّة إلى إصلاح تشريعي يُعيد النظر بالمادة (185)، بما يضمن مواءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية لحماية الطفل، ويوفر له ضمانة قانونية فعالة داخل المؤسسات التعليمية.
آلية تقديم الشكوى والإجراءات القانونية المتاحة:
يملك ولي الطفل المتضرر أو وكيله القانوني الحقّ في تقديم دعوى جزائية بحق الفاعل أمام النيابة العامة المختصة لمكان وقوع الجرم، وذلك استنادًا إلى أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري، على أن تتضمن الشكوى بيانات واضحة عن الشاكي والمشكو منه، بما في ذلك الاسم الكامل والعنوان، وبيانًا تفصيليًا لوقائع الحادثة وظروفها، مع إرفاق تقرير طبي أصولي يبيّن طبيعة الإصابات أو الأضرار الجسدية التي لحقت بالطفل نتيجة فعل التعنيف، متى وُجدت.
ويُطلب في متن الشكوى من النيابة العامة تحريك الدعوى العامة بحق الفاعل وإحالته إلى القضاء الجزائي المختص بجرم الإيذاء المقصود، عملاً بأحكام المواد (540) وما بعدها من قانون العقوبات السوري ،كما يجوز لولي الأمر في إطار الدعوى ذاتها، المطالبة بالتعويض المدني عن الضرر المادي أو المعنوي الذي لحق بالمجني عليه، استنادًا إلى أحكام المادة (138) من قانون العقوبات السوري التي تنص على أن، “كل جريمة تلحق بالغير ضررًا ماديًا كان أو أدبيًا، تُلزم الفاعل بالتعويض”.
وفي موازاة المسار الجزائي، يمكن لولي الطفل المتضرر أيضًا تقديم شكوى إدارية إلى مديرية التربية المختصة، يطلب فيها اتخاذ الإجراءات المسلكية بحق الفاعل، وذلك استنادًا إلى الأنظمة الداخلية والعقابية المعمول بها في وزارة التربية.
خاتمة وتوصيات:
تُعدّ ظاهرة العنف الممارس ضد الأطفال في المؤسسات التعليمية من أكثر السلوكيات خطورة على البنية النفسية والاجتماعية للطفل، إذ تخلّف آثارًا عميقة تتمثل في انخفاض تقدير الذات، وتنامي مشاعر القلق والتوتر والاكتئاب، مما يؤدي إلى عزوف الطفل عن الذهاب إلى المدرسة أو إصابته بما يُعرف بـ”رهاب المدرسة”، وهو ما ينعكس سلبًا على تحصيله العلمي واستقراره النفسي، وقد يفضي في كثير من الحالات إلى الانقطاع المبكر عن التعليم.
وانطلاقًا من كون الطفل يشكّل الركيزة الأساسية لبناء المجتمعات الحديثة، فإن الحكومة الانتقالية في سوريا مدعوة إلى إجراء مراجعة تشريعية شاملة لقانون العقوبات السوري، وإلغاء المادة (185) التي تبيح ضرب الأطفال تحت مسمى “التأديب”، واستحداث نصوص قانونية خاصة تجرّم جميع أشكال العنف التربوي، وتقرّ عقوبات رادعة بحق مرتكبيها، بما يضمن حماية فعالة لحقوق الطفل داخل المؤسسات التعليمية، وبما يتوافق مع المواثيق الدولية ذات الصلة.
كذلك يجب العمل على نشر الوعي الأسري والمجتمعي حول مخاطر العنف المدرسي وآثاره على نمو الطفل وسلوكه، وتفعيل آليات الشكاوى والمساءلة، وتدريب الكوادر التربوية على أساليب التعليم الحديثة القائمة على الاحترام والحوار والتشجيع الإيجابي بدلاً من العقاب البدني، وتقييم دوري لأداء المعلمين والمعلمات، واتخاذ إجراءات حازمة بحق من يثبت تورطه في ممارسات عنيفة بحق الطلاب، وتعزيز دور المرشدين الاجتماعيين والنفسيين في المدارس، ولا سيما في المؤسسات التي تتكرر فيها حوادث العنف، لمتابعة الحالات ومعالجتها مبكرًا.
[1] وفقا لمقال نشر على موقع تلفزيون سوريا بتاريخ: 8 تشرين الأول/أكتوبر: 2025 متوفرة على الرابط التالي: https://www.syria.tv/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%AD%D8%A7%D8%AF%D8%AB%D8%A9-%D8%B9%D9%82%D8%A7%D8%A8-%D8%AC%D8%B3%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%88%D9%82%D9%81-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84
[2] وفقا لمنشور نشر على الصفحة الشخصية على الفيسبوك لمدير التربية والتعليم بريف دمشق فادي نزهت بتاريخ: 7 تشرين الأول/أكتوبر2025 متوفر على الرابط التالي https://www.facebook.com/share/p/1M4vVJBkbW /
اخر زيارة للرابط بتاريخ: 13 تشرين الأول/أكتوبر2025.
[3] تتراوح مدة الحبس التكديري بين يوم وعشرة ايام (المادة 60 من قانون العقوبات السوري)