على مدى عقود، عاش المجتمع المدني السوري في ظلّ بيئة خانقة أضعفت قدرته على العمل المستقل، إذ أحكم النظام السابق قبضته على الفضاء العام وحوّل النقابات المهنية واتحادات العمال والفلاحين إلى أذرع سياسية وأمنية تابعة له، تُستخدم لضبط المجتمع بدل الدفاع عن مصالح أعضائها. وبمرور الوقت، تراجع النشاط المدني الحقيقي إلى الحدّ الأدنى، واقتصر على جمعيات خيرية محدودة النشاط تخضع للوصاية الحكومية وتُمنع من أداء أي دور رقابي أو تنموي فعلي.

غير أنّ عام 2011 مثّل نقطة تحوّل، إذ دفعت الأحداث المتسارعة إلى بروز طاقات مدنية جديدة، نشأت على شكل منظمات مستقلة ومبادرات تهدف إلى تقديم المساعدات وتوثيق الانتهاكات وتعزيز قيم العدالة والمساءلة. ومع مرور السنوات، بدأت هذه المنظمات تشكّل نواة لمجتمع مدني أكثر حيوية واستقلالاً، ما خلق أملاً بأن تؤدي دوراً محورياً في مرحلة التعافي وإعادة الإعمار بعد سقوط النظام السابق.

كتاب الوزارة يقيد عمل المنظمات مجدداً:

أصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مؤخرا وبالتحديد في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2025، كتاباً موجهاً إلى مديري الشؤون الاجتماعية والعمل في المحافظات، شددت فيه على ضرورة التزام المنظمات غير الحكومية بعدم قبول أي تمويل أو تبرعات من جهات خارجية قبل الحصول على الموافقات الرسمية المسبقة.

كما أكّدت الوزارة على أنّه “نتيجة لمتابعة أعمال المنظمات غير الحكومية والأنشطة المنفذة من قبلها ودراسة استمارات تقييم الأداء الذاتي، تبين قبول المنظمات غير الحكومية تمويلات وتبرعات من جهات خارجية دون الحصول على الموافقات اللازمة“، وهو ما اعتبرته مخالفة واضحة للقوانين النافذة.

وقد استندت الوزارة في كتابها على تطبيق القوانين القديمة الناظمة لعمل الجمعيات، وفي مقدمتها القانون رقم 93 لعام 1958، الذي لا يزال المرجع الأساسي لتنظيم عمل المنظمات في سوريا، وذلك على الرغم من قدمه، وأن النظام السابق كان يستخدمه كأداة لتقييد النشاط الأهلي والسيطرة عليه.

وأشار الكتاب إلى مواد محددة من القانون، لا سيما المواد رقم 21 و 66 و 69 والتي تفرض على الجمعيات الحصول على موافقة مسبقة قبل الاشتراك في أي جمعية أو اتحاد أو هيئة خارج سوريا، كما تحظر على الجمعيات قبول أو إرسال أي أموال لأشخاص أو جمعيات خارج سوريا دون موافقة السلطات الإدارية المسبقة، وشددت على أن الهدف من التوجيهات الجديدة هو “تنظيم وحوكمة عمل الجمعيات”، ولا سيما ما يتعلق بقبول التبرعات المادية والعينية من الخارج، داعية إلى تعميم التعليمات على جميع الجمعيات العاملة في المحافظات.

ويعتبر القانون رقم 93 ولائحته التنفيذية قانوناً تقيدياً، تمت صياغته في سياق وواقع مختلفين تمام الاختلاف عن التحديات والفرص التي تواجهها سوريا في الوقت الحاضر، ومن شأنه أن يعيق مساهمة المنظمات غير الحكومية في خطوات التعافي في المرحلة الانتقالية، حيث صدر القانون خلال فترة الوحدة بين مصر وسوريا (1958–1961)، وتبنى بشكل أساسي أفكار الحكم العسكري وقتها ورؤيته لدور الدولة بالتحكم في المجتمع وتوجيهه.

لاحقاً، عمل نظام البعث على تعديل بعض أحكام القانون في عام 1969 عبر المرسوم التشريعي رقم 224 بحيث زاد من تحكم السلطات بالجمعيات ومنحها صلاحية دمج الجمعيات التي تؤدي أعمالاً متشابهة لتقليل التكرار في تقديم الخدمات، وإمكانية حل الجمعيات إدارياً دون اللجوء إلى المحاكم، وذلك لأسباب عدة، مثل خروج الجمعية عن أهدافها أو عدم عقد اجتماعاتها، ومنح وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مسؤولية إدارة القانون وممارسة سلطة حل الجمعيات، ويعتبر قرار حل الجمعية قطعياً لا يقبل أي طريق من طرق المراجعة.

مخاوف من تحكم السلطات في الفضاء المدني:

أصدرت 31 منظمة مدنية سورية ورقة موقف مشتركة حول قرار وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وأعربت المنظمات الموقعة على الورقة عن مخاوفها العميقة من آثار تطبيق مضمون الكتاب والنهج الصارم الذي يعتمده، استناداً إلى قانون الجمعيات المقيد، الذي لطالما استخدمه النظام السابق في التضييق على عمل المنظمات غير الحكومية وملاحقة أعضائها واعتقالهم.

وأكدت المنظمات الموقعة على  تعارض الكتاب المذكور مع المادة 14 من الإعلان الدستوري التي تكفل حرية تكوين الجمعيات والنقابات، والمادة 12 المتعلقة باعتبار جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان التي صادقت عليها سوريا جزء لا يتجزأ من الإعلان الدستوري، ولعل أبرز تلك الاتفاقيات هو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي ينص في مادته 22 على أن لكل فرد الحق في حرية تكوين الجمعيات والانضمام إليها، وتحظر المادة 22 تقييد هذا الحق إلا بقيود محددة ينصّ عليها القانون، على أن تكون تلك القيود ضرورية وفي مجتمع ديمقراطي، لتحقيق غايات مشروعة حصراً.

 وأعربت المنظمات الموقعة، ومنها “العدالة من أجل الحياة”، و”سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، و”المركز السوري للعدالة والمساءلة”، و”دولتي” و “بدائل” و “المركز السوري لبحوث السياسات” وغيرها من المنظمات، عن “قلقها من أن إعادة تفعيل القانون رقم 93 سيخلق بيئة عمل صعبة وطاردة للمنظمات غير الحكومية، الأمر الذي سَيُصعِّب مهمة هذه المنظمات بالاستجابة لاحتياجات السوريين والسوريات في هذه المرحلة الحرجة، ويصعب مهمة المانحين والمتبرعين الدوليين والسوريين الراغبين بدعم المرحلة الانتقالية في سوريا، في الوقت الذي تنتظر فيه المنظمات غير الحكومية إتمام رفع العقوبات الاقتصادية على سوريا لزيادة حجم تعاونها والتي قد يقيدها الكتاب الأخير الصادر عن وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل“.

خاتمة وتوصيات:

يطرح قرار وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بشأن تطبيق القانون رقم 93 لعام 1958 وتعديلاته تساؤلات جدية حول مستقبل العمل المدني في سوريا، خصوصاً في ظل غياب قانون حديث يعكس التحولات التي شهدها المجتمع خلال السنوات الماضية. وتخشى المنظمات أن يؤدي هذا التشديد إلى تقييد مساحات العمل الأهلي، وعرقلة جهودها في إعادة الإعمار وتقديم الخدمات.

إنّ الحفاظ على استقلال المجتمع المدني يعدّ ركيزة أساسية لأي عملية انتقال سياسي ناجح، وأي عودة إلى القوانين القديمة التي نشأت في ظل أنظمة سلطوية قد تُضعف الثقة بين الدولة والمجتمع وتؤخر فرص التعافي.

وعليه، يجب تعزيز استقلالية المجتمع المدني، من خلال ضمان حرية المنظمات في تأسيس نشاطاتها واتخاذ قراراتها الداخلية دون تدخل حكومي يقيد من قدرتها على خدمة المواطنين والمجتمع بشكل فعال ومستدام.

وكذلك تحديث الإطار القانوني القائم من خلال العمل على إصدار قانون جديد للمنظمات غير الحكومية يعكس التحولات الراهنة في المجتمع السوري، ويتيح المجال أمام الجمعيات للعمل بحرية ومسؤولية، وتبني آليات مرنة لتلقي التمويل المحلي والدولي، مع الحفاظ على آليات الشفافية والمساءلة، وتجنب القيود البيروقراطية المرهقة التي قد تحد من عمل المنظمات أو تؤخر مشاريعها.