عقب سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، بعد نزاع مسلح استمر أربعة عشر عاماً، يواجه المجتمع السوري اليوم إرثاً ثقيلاً من الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت خلال سنوات الصراع، والتي تورطت فيها أطراف عسكرية متعددة، وتُصنَّف العديد منها كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. شملت هذه الانتهاكات استخدام الأسلحة الكيميائية، وقصفاً جوياً واسع النطاق على مناطق مدنية، إلى جانب الاعتقال التعسفي، والإخفاء القسري، والتعذيب، ما أدى إلى وفاة أو فقدان مئات الآلاف من الضحايا. وقد وثّقت هذه الانتهاكات تقارير متعددة صادرة عن منظمات سورية ودولية وأممية.

ولا تقتصر الآثار النفسية والاجتماعية لهذه الانتهاكات على الضحايا المباشرين فقط، بل تطال أسرهم ومجتمعاتهم الأوسع. وفي ظل هذا الواقع المعقد، يشكّل الانتقام الشخصي وتصفية الحسابات خطراً حقيقياً على النسيج المجتمعي، حيث شهدت البلاد بالفعل حوادث متزايدة استهدفت أفراداً مرتبطين بالنظام السابق، شملت مدنيين في بعض الحالات. من هنا، تبرز أهمية وجود إطار مؤسسي للعدالة الانتقالية يضمن حقوق الضحايا، ويحول دون تكرار الانتهاكات، ويساهم في بناء مسار وطني للإنصاف والمصالحة.

تتمثل العدالة الانتقالية بتعريفها البسيط بمجموعة من الإجراءات القضائية وغير القضائية التي تهدف إلى معالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة، ومساعدة المجتمع في الانتقال من مرحلة الصراع أو الحكم الاستبدادي إلى مرحلة السلام المستدام. وتشمل هذه الإجراءات آليات مثل المحاكمات، ولجان الحقيقة، وجبر الضرر، والإصلاح المؤسسي، وأعمال المصالحة المجتمعية.

استجابة لهذه الحاجة، أصدر الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية السيد أحمد الشرع المرسوم رقم 20 لعام 2025، القاضي بتشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، والتي تهدف وفق نص المرسوم إلى “كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام البائد”، ومساءلة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر ضرر الضحايا، وتعزيز المصالحة الوطنية.

يمثّل هذا المرسوم خطوة إيجابية في اتجاه بناء آلية مؤسساتية للعدالة الانتقالية. ومع ذلك، فقد أثار نص المرسوم عدداً من المخاوف الحقوقية، تتعلق بمنظور الهيئة، وصلاحياتها، ومدى انسجامها مع الإعلان الدستوري (الذي يشكل القاعدة الأساسية لأي مرسوم أو قانون لاحق)، خاصة فيما يتعلق بشمولية العدالة واستقلالية المؤسسات.

أولاً، يقتصر المرسوم على تناول الانتهاكات التي ارتكبها النظام السابق، دون أن يشمل الانتهاكات التي ارتكبتها أطراف عسكرية أخرى خلال النزاع، أو التي ارتُكبت بعد سقوط النظام. ورغم أن النظام السابق يتحمل المسؤولية الكبرى عن غالبية الانتهاكات، إلا أن تجاهل الجرائم التي ارتكبتها جهات أخرى يُعد انتقاصاً من مبدأ المساواة أمام القانون الذي نصت عليه المادة 10 من الإعلان الدستوري. لذا فإنّه من الضروري أن تشمل العدالة الانتقالية جميع الضحايا دون تمييز، وأن تكفل حقوقهم في معرفة الحقيقة، والمساءلة، والإنصاف وجبر الضرر.

ثانياً، يشير المرسوم إلى معالجة “الانتهاكات الجسيمة” دون أن يوضح المقصود بهذا المصطلح أو الآلية التي ستُعتمد لتحديدها. ومن المعروف أن العدالة الانتقالية لا تقتصر على الانتهاكات بالمعنى الأشد، بل تشمل أنماطاً متعددة من الانتهاكات التي تؤثر على الأفراد والمجتمع، خاصة عندما يكون الهدف هو بناء مسار شمولي يُعترف فيه بجميع الضحايا.

ثالثاً، تعمل الهيئة ضمن إطار النظام القضائي السوري، الذي يفترض أن يكون مستقلاً عن السلطة التنفيذية وفق المادة 43 من الإعلان الدستوري. إلا أن تشكيل الهيئة عبر مرسوم رئاسي، وتعيين أعضائها من قبل رئيس الجمهورية، يثيران مخاوف جدية بشأن استقلاليتها وحيادها. إن إنشاء هيئة بهذه الأهمية كان يستوجب صدور قانون عن السلطة التشريعية يحدد صلاحياتها، وآليات عملها، وضمانات استقلالها، وآليات الرقابة عليها.

رابعاً، تنص المادة 49 من الإعلان الدستوري على إشراك الضحايا وذويهم في عمليات العدالة الانتقالية، غير أن المرسوم لم ينص بوضوح على ضمان هذا التمثيل أو آليات مشاركتهم في تصميم وتنفيذ ومراقبة أعمال الهيئة. ومن المهم التأكيد على أن العدالة الانتقالية ليست عملية مفروضة من أعلى، بل مسار مجتمعي تشاركي، يجب أن يُصاغ بمساهمة فعلية من الضحايا والمجتمع المدني.

خامساً، نص المرسوم على منح الهيئة الشخصية الاعتبارية، وهو ما يتعارض مع أحكام القانون المدني السوري النافذ، والذي ينص في مادته 54 على أن منح الشخصية الاعتبارية يتم بموجب قانون يصدر عن السلطة التشريعية، لا بموجب مرسوم صادر عن السلطة التنفيذية.

تُشكّل المرحلة الانتقالية الراهنة لحظة فارقة في تاريخ سوريا، تحمل في طيّاتها فرصة حقيقية للانتقال من منطق الصراع إلى منطق العدالة والمصالحة. فمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وترسيخ مبادئ السلم الأهلي وسيادة القانون، تتطلب تبنّي مقاربة شاملة للعدالة الانتقالية تُنصف جميع الضحايا دون استثناء، وتُعزز الثقة المجتمعية بالدولة ومؤسساتها. ومن خلال بناء منظومة عدالة تستند إلى مبادئ الشفافية والمساءلة والمشاركة، يمكن الحدّ من مظاهر الانتقام التي شهدتها البلاد مؤخراً، إذ إن وجود مسارات فعّالة للتحقيق وجبر الضرر والتعويض العادل من شأنه أن يقلل من دوافع الثأر الشخصي. وانطلاقاً من ذلك، نأمل أن تُعيد الحكومة الانتقالية النظر في آلية تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، بما يضمن استقلاليتها وشمولها وتمثيل الضحايا والمجتمع المدني ضمن هيكليتها وعملها، وصولاً إلى تحقيق عدالة حقيقية تُنهي دوامة الإفلات من العقاب وتؤسس لمستقبل أكثر عدلاً وإنصافاً.